فصل: كِتَابُ الْبُيُوعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية (نسخة منقحة)



.فصلٌ: (إِذَا بَنَى مَسْجِدًا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ):

(وَإِذَا بَنَى مَسْجِدًا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ حَتَّى يُفْرِزَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِطَرِيقَةٍ وَيَأْذَنُ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ فَإِذَا صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ زَالَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ مِلْكِهِ) أَمَّا الْإِفْرَازُ، فَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُصُ لِلَّهِ تَعَالَى إلَّا بِهِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِيهِ فَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَيُشْتَرَطُ تَسْلِيمُ نَوْعِهِ، وَذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْقَبْضُ فَقَامَ تَحَقُّقُ الْمَقْصُودِ مَقَامَهُ، ثُمَّ يُكْتَفَى بِصَلَاةِ الْوَاحِدِ فِيهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّ فِعْلَ الْجِنْسِ مُتَعَذِّرٌ فَيُشْتَرَطُ أَدْنَاهُ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَزُولُ مِلْكُهُ بِقَوْلِهِ جَعَلْتُهُ مَسْجِدًا) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لِمِلْكِ الْعَبْدِ فَيَصِيرُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى بِسُقُوطِ حَقِّ الْعَبْدِ وَصَارَ كَالْإِعْتَاقِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ: (وَمَنْ جَعَلَ مَسْجِدًا تَحْتَهُ سِرْدَابٌ أَوْ فَوْقَهُ بَيْتٌ وَجَعَلَ بَابَ الْمَسْجِدِ إلَى الطَّرِيقِ وَعَزَلَهُ عَنْ مِلْكِهِ، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَإِنْ مَاتَ يُورَثُ عَنْهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى لِبَقَاءِ حَقِّ الْعَبْدِ مُتَعَلِّقًا بِهِ، وَلَوْ كَانَ السِّرْدَابُ لِمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ جَازَ كَمَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا جُعِلَ السُّفْلُ مَسْجِدًا وَعَلَى ظَهْرِهِ مَسْكَنٌ فَهُوَ مَسْجِدٌ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مِمَّا يَتَأَبَّدُ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي السُّفْلِ دُونَ الْعُلُوِّ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى عَكْسِ هَذَا لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُعَظَّمٌ وَإِذَا كَانَ فَوْقَهُ مَسْكَنٌ أَوْ مُسْتَغَلٌّ يَتَعَذَّرُ تَعْظِيمُهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ جَوَّزَ فِي الْوَجْهَيْنِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ وَرَأَى ضِيقَ الْمَنَازِلِ فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ حِينَ دَخَلَ الرَّيَّ أَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ لِمَا قُلْنَا.
قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ اتَّخَذَ وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ) يَعْنِي لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُورَثَ عَنْهُ، لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ فِيهِ حَقُّ الْمَنْعِ وَإِذَا كَانَ مِلْكُهُ مُحِيطًا بِجَوَانِبِهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْمَنْعِ فَلَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا، وَلِأَنَّهُ أَبْقَى الطَّرِيقَ لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ، وَلَا يُوهَبُ) اعْتَبَرَهُ مَسْجِدًا وَهَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِكَوْنِهِ مَسْجِدًا، وَلَا يَصِيرُ مَسْجِدًا إلَّا بِالطَّرِيقِ دَخَلَ فِيهِ الطَّرِيقُ وَصَارَ مُسْتَحَقًّا كَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ.
قَالَ: (وَمَنْ اتَّخَذَ أَرْضَهُ مَسْجِدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَلَا يَبِيعَهُ وَلَا يُورَثَ عَنْهُ) لِأَنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الْعِبَادِ، وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِذَا أَسْقَطَ الْعَبْدُ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الْحَقِّ رَجَعَ إلَى أَصْلِهِ فَانْقَطَعَ تَصَرُّفُهُ عَنْهُ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ، وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتَغْنَى عَنْهُ يَبْقَى مَسْجِدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ مِنْهُ فَلَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْبَانِي أَوْ إلَى وَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ عَيَّنَهُ لِنَوْعِ قُرْبَةٍ وَقَدْ انْقَطَعَتْ فَصَارَ كَحَصِيرِ الْمَسْجِدِ وَحَشِيشِهِ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فِي الْحَصِيرِ وَالْحَشِيشِ: إنَّهُ يُنْقَلُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ.
قَالَ: (وَمَنْ بَنَى سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَانًا يَسْكُنُهُ بَنُو السَّبِيلِ أَوْ رِبَاطًا أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ حَقِّ الْعَبْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فَيَسْكُنَ فِي الْخَانِ وَيَنْزِلَ فِي الرِّبَاطِ وَيَشْرَبَ مِنْ السِّقَايَةِ وَيُدْفَنَ فِي الْمَقْبَرَةِ فَيُشْتَرَطُ حُكْمُ الْحَاكِمِ أَوْ الْإِضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَخَلَصَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ.
(وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: يَزُولُ مِلْكُهُ بِالْقَوْلِ) كَمَا هُوَ أَصْلُهُ إذْ التَّسْلِيمُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَالْوَقْفُ لَازِمٌ.
(وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا اسْتَقَى النَّاسُ مِنْ السِّقَايَةِ وَسَكَنُوا الْخَانَ وَالرِّبَاطَ وَدَفَنُوا فِي الْمَقْبَرَةِ زَالَ الْمِلْكُ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ شَرْطٌ وَالشَّرْطُ تَسْلِيمُ نَوْعِهِ وَذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَيُكْتَفَى بِالْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ فِعْلِ الْجِنْسِ كُلِّهِ وَعَلَى هَذَا: الْبِئْرُ الْمَوْقُوفَةُ وَالْحَوْضُ، وَلَوْ سَلَّمَ إلَى الْمُتَوَلِّي صَحَّ التَّسْلِيمُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا، لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَفِعْلُ النَّائِبِ كَفِعْلِ الْمَنُوبِ عَنْهُ، وَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ قِيلَ: لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا لِأَنَّهُ لَا تَدْبِيرَ لِلْمُتَوَلِّي فِيهِ، وَقِيلَ: يَكُونُ تَسْلِيمًا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَكْنُسُهُ، وَيُغْلِقُ بَابَهُ، فَإِذَا سَلَّمَ إلَيْهِ صَحَّ التَّسْلِيمُ، وَالْمَقْبَرَةُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا قِيلَ لِأَنَّهُ لَا مُتَوَلِّيَ لَهُ عُرْفًا، وَقِيلَ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ السِّقَايَةِ وَالْخَانِ فَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي لِأَنَّهُ لَوْ نَصَّبَ الْمُتَوَلِّي يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ الْعَادَةِ، وَلَوْ جَعَلَ دَارًا لَهُ بِمَكَّةَ سُكْنَى لِحَاجِّ بَيْتِ اللَّهِ وَالْمُعْتَمِرِينَ أَوْ جَعَلَ دَارِهِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ سُكْنَى لِلْمَسَاكِينِ، أَوْ جَعَلَهَا فِي ثَغْرٍ مِنْ الثُّغُورِ سُكْنَى لِلْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ أَوْ جَعَلَ غَلَّةَ أَرْضِهِ لِلْغُزَاةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَدَفَعَ ذَلِكَ إلَى وَالٍ يَقُومُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ لَا رُجُوعَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ فِي الْغَلَّةِ تَحِلُّ لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ وَفِيمَا سِوَاهُ مِنْ سُكْنَى الْخَانِ وَالِاسْتِقَاءِ مِنْ الْبِئْرِ وَالسِّقَايَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالْفَارِقُ هُوَ الْعُرْفُ فِي الْفَصْلَيْنِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِي الْغَلَّةِ الْفُقَرَاءَ، وَفِي غَيْرِهَا التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَشْمَلُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ فِي الشُّرْبِ وَالنُّزُولِ، وَالْغَنِيُّ لَا يَحْتَاجُ إلَى صَرْفِ هَذِهِ الْغَلَّةِ لِغِنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.كِتَابُ الْبُيُوعِ:

قَالَ: (الْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إذَا كَانَا بِلَفْظَيْ الْمَاضِي) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا: بِعْتُ وَالْآخَرُ اشْتَرَيْتُ، لِأَنَّ الْبَيْعَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ، وَالْإِنْشَاءُ يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ، وَالْمَوْضُوعُ لِلْإِخْبَارِ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ فَيَنْعَقِدُ بِهِ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَفْظُ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْآخَرُ: لَفْظُ الْمَاضِي بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ هُنَاكَ، وَقَوْلُهُ رَضِيتُ بِكَذَا أَوْ أَعْطَيْتُك بِكَذَا أَوْ خُذْهُ بِكَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي فِي النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِتَحَقُّقِ الْمُرَاضَاةِ.
قَالَ: (وَإِذَا أَوْجَبَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَيْعَ فَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ) وَهَذَا خِيَارُ الْقَبُولِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْخِيَارُ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَإِذَا لَمْ يُفِدْ الْحُكْمُ بِدُونِ قَبُولِ الْآخَرِ فَلِلْمُوجِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ قَبْلَ قَبُولِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ جَامِعُ الْمُتَفَرِّقَاتِ فَاعْتُبِرَتْ سَاعَاتُهُ سَاعَةً وَاحِدَةً دَفْعًا لِلْعُسْرِ وَتَحْقِيقًا لِلْيُسْرِ، وَالْكِتَابُ كَالْخِطَابِ وَكَذَا الْإِرْسَالُ حَتَّى اُعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَأَدَاءُ الرِّسَالَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ وَلَا أَنْ يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي بِبَعْضِ الثَّمَنِ لِعَدَمِ رِضَى الْآخَرِ بِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ إلَّا إذَا بَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ صَفَقَاتٌ مَعْنًى.
قَالَ: (وَأَيُّهُمَا قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ بَطَلَ الْإِيجَابُ) لِأَنَّ الْقِيَامَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَالرُّجُوعِ وَلَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِذَا حَصَلَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَزِمَ الْبَيْعُ وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا مِنْ عَيْبٍ أَوْ عَدَمِ رُؤْيَةٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» وَلَنَا أَنَّ فِي الْفَسْخِ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ فَلَا يَجُوزُ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى خِيَارِ الْقَبُولِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَيْهِ فَإِنَّهُمَا مُتَبَايِعَانِ حَالَةَ الْمُبَاشَرَةِ لَا بَعْدَهَا أَوْ يَحْتَمِلُهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَالتَّفَرُّقُ فِيهِ تَفَرُّقُ الْأَقْوَالِ.
قَالَ: (وَالْأَعْوَاضُ الْمُشَارُ إلَيْهَا لَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهَا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ) لِأَنَّ بِالْإِشَارَةِ كِفَايَةً فِي التَّعْرِيفِ وَجَهَالَةً فِيهِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ (وَالْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَعْرُوفَةَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَالتَّسَلُّمَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيُمْتَنَعُ التَّسْلِيمُ وَالتَّسَلُّمُ، وَكُلُّ جَهَالَةٍ هَذِهِ صِفَتُهَا تَمْنَعُ الْجَوَازَ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ.
الشرح:
كِتَابُ الْبُيُوعِ:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا».
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَمِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ.
أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: فَأَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيِّعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ» انْتَهَى بِلَفْظِ الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: قَالَ: «إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا، أَوْ يُخَيِّرْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، فَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ يَتَبَايَعَا، وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ»، وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: «إذَا تَبَايَعَ الْمُتَبَايِعَانِ بِالْبَيْعِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مِنْ بَيْعِهِ، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَكُونُ بَيْعُهُمَا عَلَى الْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ بَيْعُهُمَا عَلَى خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ»، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا بَايَعَ رَجُلًا، فَأَرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ، قَامَ فَمَشَى هُنَيْهَةً، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ، وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: قَالَ: «كُلُّ بَيِّعَيْنِ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ»، انْتَهَى.
وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد، قَالَ: «الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ»، انْتَهَى.
وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، قَالَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَخْتَارَا، قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا ابْتَاعَ بَيْعًا، وَهُوَ قَاعِدٌ قَامَ لِيَجِبَ لَهُ»، انْتَهَى.
وَلَفْظُ النَّسَائِيّ، قَالَ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا،»، انْتَهَى.
وَهُوَ لَفْظُ الْكِتَابِ، وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ، قَالَ: «إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا، أَوْ يُخَيِّرْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، فَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ»، انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: فَأَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا».
قَالَ مُسْلِمٌ: وُلِدَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَعَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً. انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالُوا ثَلَاثَتُهُمْ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ»، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ بِلَفْظِ: «أَيُّمَا رَجُلٍ ابْتَاعَ مِنْ رَجُلٍ بَيْعَةً، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا مِنْ مَكَانِهِمَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ»، انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ: فَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا»، انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَرْزَةَ: فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ جَمِيلِ بْنِ مُرَّةَ: عَنْ أَبِي الْوَضِيءِ عَبَّادِ بْنِ نُسَيْبٍ، قَالَ: «غَزَوْنَا غَزْوَةً، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَبَاعَ صَاحِبٌ لَنَا فَرَسًا بِغُلَامٍ، ثُمَّ أَقَامَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، فَلَمَّا أَصْبَحَا مِنْ الْغَدِ قَامَ الرَّجُلُ إلَى فَرَسِهِ يَسْرُجُهُ، فَنَدِمَ، فَأَتَى الرَّجُلُ وَأَخَذَهُ بِالْبَيْعِ، فَأَبَى الرَّجُلُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ، فَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَك أَبُو بُرْدَةَ، صَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيَا أَبَا بُرْدَةَ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ، فَقَالَا لَهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ: أَتَرْضَيَانِ أَنْ أَقْضِيَ بَيْنَكُمَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا».
قَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ: حَدَّثَ جَمِيلٌ أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَرَاكُمَا افْتَرَقْتُمَا»، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مُخْتَصَرًا، بِدُونِ الْقِصَّةِ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا»، انْتَهَى.
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ النَّاسِ الْحَدِيثَ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي الْكَلَامِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا مُحَالٌ لَا يَجُوزُ فِي اللِّسَانِ، إنَّمَا يَكُونَانِ قَبْلَ التَّسَاوُمِ، غَيْرَ مُتَسَاوِمَيْنِ، ثُمَّ يَكُونَانِ مُتَسَاوِمَيْنِ قَبْلَ التَّبَايُعِ، ثُمَّ يَكُونَانِ بَعْدَ التَّسَاوُمِ مُتَبَايِعَيْنِ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِمَا اسْمُ الْمُتَبَايِعَيْنِ حَتَّى يَتَبَايَعَا، وَيَتَفَرَّقَا فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّبَايُعِ، قَالَ: وَلَوْ احْتَمَلَ اللَّفْظُ مَا قَالَهُ، وَمَا قُلْنَاهُ، فَالْقَوْلُ بِقَوْلِ رَاوِي الْحَدِيثِ أَوْلَى، لِأَنَّ لَهُ فَضْلَ السَّمَاعِ، وَالْعِلْمَ بِاللِّسَانِ، وَبِمَا سَمِعَ، هَذَا ابْنُ عُمَرَ كَانَ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ، ثُمَّ مَشَى قَلِيلًا، وَرَجَعَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ يُسَوِّي الْأَخْبَارَ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُبْتَاعِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى تَمَامَ الْبَيْعِ بِالْقَوْلِ، قَبْلَ الْفُرْقَةِ، قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عُمَرَ لَا يُنَافِي مَذْهَبَهُ مِنْ ثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَقَدْ قِيلَ: إذَا تَفَرَّقَا وَلَمْ يَخْتَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا انْفَسَخَ، فَقَدْ عَلْمِنَا انْتِقَالَ الْمِلْكِ بِالصَّفْقَةِ، ثُمَّ كَانَ هُوَ يَرَى الْمَبِيعَ فِي يَدِ الْبَائِعِ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَغَيْرُهُ يَرَاهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ مَعَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِيهِ، حَتَّى يَتَفَرَّقَا، أَوْ يُخَيَّرَا فِي قَوْلِهِ وَقَوْلِنَا، وَلَوْ قَبَضَهُ الْمُبْتَاعُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ حَتَّى يَكُونَ مِنْ ضَمَانِهِ فِي قَوْلِنَا أَيْضًا، لَمْ يَمْنَعْ ثُبُوتَ الْخِيَارِ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يَقْبِضْهُ عِنْدَهُ، فَإِذَا لَمْ يَمْنَعْ قَوْلَنَا: إنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ لُزُومُ الْبَيْعِ لَمْ يَمْنَعْ قَوْلَهُ: إنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُبْتَاعِ ثُبُوتُ الْخِيَارِ، قَالَ: وَزَعَمَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ أَنَّهُمَا كَانَا قَدْ تَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ قَامَ يَسْرُجُ فَرَسَهُ، وَقَوْلُ أَبِي بَرْزَةَ حِينَ وَجَدَهُمَا مُتَنَاكِرَيْنِ، أَحَدُهُمَا يَدَّعِي الْبَيْعَ، وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ: مَا أَرَاكُمَا تَفَرَّقْتُمَا، أَيْ الْفُرْقَةُ الَّتِي بِهَا يَتِمُّ الْبَيْعُ، وَهِيَ الْفُرْقَةُ بِالْكَلَامِ، فَسَوَّى الْحَدِيثَ هَكَذَا عَلَى مَذْهَبِهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمَا كَانَا بَاتَا مَعًا عِنْدَ الْفَرَسِ، وَحِينَ قَامَ الْبَائِعُ إلَى فَرَسِهِ لِيَسْرُجَهَا لَمْ يَفْتَرِقْ بِهِمَا الْمَجْلِسُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: «فَأَتَى الرَّجُلُ يَعْنِي الْمُبْتَاعَ فَأَخَذَهُ بِالْمَبِيعِ»، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ جَمِيلٍ: «أَلَيْسَ قَدْ بِعْتَنِيهَا؟ قَالَ: مَا لِي فِي هَذَا الْبَيْعِ مِنْ حَاجَةٍ، قَالَ: لَيْسَ لَك ذَلِكَ، لَقَدْ بِعْتَنِي»، فَإِنَّمَا تَنَازَعَا فِي لُزُومِ الْبَيْعِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ أَنَّ صَاحِبَهُ أَنْكَرَ الْبَيْعَ لَا فِي الْحَالِ، وَلَا حِينَ أَتَيَا أَبَا بَرْزَةَ، فَالزِّيَادَةُ فِي الْحَدِيثِ لِيَسْتَقِيمَ التَّأْوِيلُ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ: رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: الْبَيْعُ عَنْ صَفْقَةٍ أَوْ خِيَارٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا لَا يَثْبُتُ عَنْ عُمَرَ، فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ الزَّعْفَرَانِيِّ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَئِنْ ثَبَتَ عَنْهُ فَهُوَ مَجْهُولٌ وَمُنْقَطِعٌ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُرْوَى عَنْ مُطَرِّفٍ، فَتَارَةً عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُمَرَ، وَتَارَةً عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عُمَرَ، وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَقِيلَ: عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ عَنْ عُمَرَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَجْهُولٌ وَمُنْقَطِعٌ انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالَ: (وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ إذَا كَانَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا) لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}، وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ»، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ مَانِعَةٌ مِنْ التَّسْلِيمِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ فَهَذَا يُطَالِبُهُ بِهِ فِي قَرِيبِ الْمُدَّةِ وَهَذَا يُسَلِّمُهُ فِي بِعِيدِهَا.
الشرح:
الْحَدِيثُ الثَّانِي: رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ إلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَ دِرْعَهُ».
قُلْت: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ»، انْتَهَى.
وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: «ثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ».
وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا بِنَسِيئَةٍ، وَأَعْطَاهُ دِرْعًا لَهُ رَهْنًا»، انْتَهَى.
وَهَذَا الْيَهُودِيُّ اسْمُهُ أَبُو الشَّحْمِ، هَكَذَا وَقَعَ مُسَمًّى فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ، أَخْرَجَهُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهَنَ دِرْعًا عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي ظَفَرٍ فِي شَعِيرٍ»، انْتَهَى.
قَالَ: (وَمَنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ كَانَ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ) لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ وَفِيهِ التَّحَرِّي لِلْجَوَازِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ (فَإِنْ كَانَتْ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَحَدُهُمَا) وَهَذَا إذَا كَانَ الْكُلُّ فِي الرَّوَاجِ سَوَاءً لِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ، إلَّا أَنْ تَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ بِالْبَيَانِ أَوْ يَكُونَ أَحَدُهَا أَغْلَبَ وَأَرْوَجَ فَحِينَئِذٍ يُصْرَفُ إلَيْهِ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الْمَالِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ سَوَاءً فِيهَا كَالثُّنَائِيِّ وَالثُّلَاثِيِّ وَالنُّصْرُتِيِّ الْيَوْمُ بِسَمَرْقَنْدَ، وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعَدَالَى بِفَرْغَانَةَ جَازَ الْبَيْعُ إذَا أُطْلِقَ اسْمُ الدِّرْهَمِ، كَذَا قَالُوا، وَيَنْصَرِفُ إلَى مَا قُدِّرَ بِهِ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ، لِأَنَّهُ لَا مُنَازَعَةَ وَلَا اخْتِلَافَ فِي الْمَالِيَّةِ.
قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الطَّعَامِ وَالْحُبُوبِ مُكَايَلَةً وَمُجَازَفَةً) وَكَذَا إذَا بَاعَهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الرِّبَا، وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَشَابَهَ جَهَالَةَ الْقِيمَةِ.
قَالَ: (وَيَجُوزُ بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ وَبِوَزْنِ حَجَرٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ) لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِمَا أَنَّهُ يَتَعَجَّلُ فِيهِ التَّسْلِيمُ فَيَنْدُرُ هَلَاكُهُ قَبْلَهُ بِخِلَافِ السَّلَمِ، لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِيهِ مُتَأَخِّرٌ وَالْهَلَاكُ لَيْسَ بِنَادِرٍ قِبَلَهُ فَتَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ».
قُلْت: غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَرَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ»، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ حَدِيثِ بِلَالٍ نَحْوُهُ، وَقَالَ فِيهِ: «فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَاحِدٌ بِعَشَرَةٍ».
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا وُزِنَ، فَمِثْلٌ بِمِثْلٍ، إذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا وَمَا كِيلَ فَمِثْلُ ذَلِكَ فَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ»، انْتَهَى.
وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ مِنْ جِهَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ، ثُمَّ قَالَ: لَمْ يَرْوِهِ هَكَذَا غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ الرَّبِيعِ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَادَةَ، وَأَنَسٍ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، انْتَهَى.
قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ الْبَيْعُ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ جُمْلَةَ قُفْزَانِهَا، وَقَالَا: يَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ) لَهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ الصَّرْفُ إلَى الْكُلِّ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فَيُصْرَفُ إلَى الْأَقَلِّ وَهُوَ مَعْلُومٌ إلَّا أَنْ تَزُولَ الْجَهَالَةُ بِتَسْمِيَةِ جَمِيعِ الْقُفْزَانِ أَوْ بِالْكَيْلِ فِي الْمَجْلِسِ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ أَقَرَّ وَقَالَ لِفُلَانٍ: عَلَيَّ كُلُّ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَهُمَا أَنَّ الْجَهَالَةَ بِيَدِهِمَا إزَالَتُهَا وَمِثْلُهَا غَيْرُ مَانِعٍ، وَكَمَا إذَا بَاعَ عَبْدًا مِنْ عَبْدَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ، ثُمَّ إذَا جَازَ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا كِيلَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ سَمَّى جُمْلَةَ قُفْزَانِهَا لِأَنَّهُ عَلِمَ بِذَلِكَ الْآنَ فَلَهُ الْخِيَارُ كَمَا إذَا رَآهُ وَلَمْ يَكُنْ رَآهُ وَقْتَ الْبَيْعِ.
قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ قَطِيعَ غَنَمٍ كُلَّ شَاةٍ بِدِرْهَمٍ فَسَدَ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَاعَ ثَوْبًا مُذَارَعَةً كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ جُمْلَةَ الذُّرْعَانِ وَكَذَا كُلُّ مَعْدُودٍ مُتَفَاوِتٍ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الْكُلِّ لِمَا قُلْنَا وَعِنْدَهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ) لِمَا بَيَّنَّا غَيْرَ أَنَّ بَيْعَ شَاةٍ مِنْ قَطِيعِ غَنَمٍ وَذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ لَا يَجُوزُ لِلتَّفَاوُتِ، وَبَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ فَلَا تُفْضِي الْجَهَالَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ فِيهِ وَتُفْضِي إلَيْهَا فِي الْأَوَّلِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ.
قَالَ: (وَمَنْ ابْتَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ عَلَى أَنَّهَا قَفِيزٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا أَقَلَّ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ) لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَامِ فَلَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ بِالْمَوْجُودِ (وَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ فَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ) لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ وَالْقَدْرُ لَيْسَ بِوَصْفٍ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا أَقَلَّ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجُمْلَةِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ) لِأَنَّ الذَّرْعَ وَصْفٌ فِي الثَّوْبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْوَصْفُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ، فَلِهَذَا يَأْخُذُهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْمِقْدَارَ يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ فَلِهَذَا يَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ إلَّا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ لِتَغَيُّرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَخْتَلُّ الرِّضَى.
قَالَ: (وَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ مِنْ الذِّرَاعِ الَّذِي سَمَّاهُ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ) لِأَنَّهُ صِفَةٌ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا بَاعَهُ مَعِيبًا فَإِذَا هُوَ سُلَيْمٌ (وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَهَا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا نَاقِصَةً فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ) لِأَنَّ الْوَصْفَ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لَكِنَّهُ صَارَ أَصْلًا بِإِفْرَادِهِ بِذِكْرِ الثَّمَنِ فَيَنْزِلُ كُلُّ ذِرَاعٍ مَنْزِلَةَ ثَوْبٍ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ آخِذًا لِكُلِّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ (وَإِنْ وَجَدَهَا زَائِدَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَمِيعَ، كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ) لِأَنَّهُ إنْ حَصَلَ لَهُ الزِّيَادَةُ فِي الذَّرْعِ تَلْزَمُهُ زِيَادَةُ الثَّمَنِ فَكَانَ نَفْعًا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ فَيَتَخَيَّرُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ صَارَ أَصْلًا، وَلَوْ أَخَذَهُ بِالْأَقَلِّ لَمْ يَكُنْ أَخْذًا بِالْمَشْرُوطِ.
قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ أَوْ حَمَامٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: هُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) لَهُمَا أَنَّ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ عُشْرُ الدَّارِ فَأَشْبَهَ عَشَرَةَ أَسْهُمٍ، وَلَهُ أَنَّ الذِّرَاعَ اسْمٌ لِمَا يُذْرَعُ بِهِ وَاسْتُعِيرَ لِمَا يُحِلُّهُ الذِّرَاعُ وَهُوَ الْمُعَيَّنُ دُونَ الْمُشَاعِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِخِلَافِ السَّهْمِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ مَا إذَا عَلِمَ جُمْلَةَ الذُّرْعَانِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ خِلَافًا لِمَا يَقُولُ الْخَصَّافُ لِبَقَاءِ الْجَهَالَةِ، وَلَوْ اشْتَرَى عِدْلًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَثْوَابٍ فَإِذَا هُوَ تِسْعَةٌ أَوْ أَحَدَ عَشَرَ فَسَدَ الْبَيْعُ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ.
(وَلَوْ بَيَّنَ لِكُلِّ ثَوْبٍ ثَمَنًا جَازَ فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ بِقَدْرِهِ وَلَهُ الْخِيَارُ وَلَمْ يَجُزْ فِي الزِّيَادَةِ) لِجَهَالَةِ الْعَشَرَةِ الْمَبِيعَةِ، وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ أَيْضًا، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا هَرَوِيَّانِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا مَرْوِيٌّ حَيْثُ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا، وَإِنْ بَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَبُولَ فِي الْمَرْوِيِّ شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ فِي الْهَرَوِيِّ وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَلَا قَبُولَ يُشْتَرَطُ فِي الْمَعْدُومِ، فَافْتَرَقَا.
(وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَاحِدًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَإِذَا هُوَ عَشَرَةٌ وَنِصْفٌ أَوْ تِسْعَةٌ وَنِصْفٌ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَأْخُذُهُ بِعَشَرَةٍ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي: يَأْخُذُهُ بِتِسْعَةٍ إنْ شَاءَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحْمَةُ اللَّهُ عَلَيْهِ: فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَأْخُذُ بِأَحَدَ عَشَرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَفِي الثَّانِي: يَأْخُذُهُ بِعَشَرَةٍ إنْ شَاءَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَأْخُذُ فِي الْأَوَّلِ: بِعَشَرَةٍ وَنِصْفٍ إنْ شَاءَ وَفِي الثَّانِي: بِتِسْعَةٍ وَنِصْفٍ وَيُخَيَّرُ) لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ مُقَابَلَةِ الذِّرَاعِ بِالدِّرْهَمِ مُقَابَلَةَ نِصْفِهِ بِنِصْفِهِ، فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُهَا، وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَمَّا أَفْرَدَ كُلَّ ذِرَاعٍ بِبَدَلٍ نَزَلَ كُلُّ ذِرَاعٍ مَنْزِلَةَ ثَوْبٍ عَلَى حِدَةٍ وَقَدْ انْتَقَصَ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا أَخَذَ حُكْمَ الْمِقْدَارِ بِالشَّرْطِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالذِّرَاعِ فَعِنْدَ عَدَمِهِ عَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ، وَقِيلَ فِي الْكِرْبَاسِ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ جَوَانِبُهُ لَا يَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي مَا زَادَ عَلَى الْمَشْرُوطِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْزُونِ حَيْثُ لَا يَضُرُّهُ الْفَصْلُ.
وَعَلَى هَذَا قَالُوا: يَجُوزُ بَيْعُ ذِرَاعٍ مِنْهُ.